سورة النحل - تفسير تفسير ابن القيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}
هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس. وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه.
فإن القياس نوعان: قياس طرد، يقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه. وقياس عكس، يقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.
فالمثل الأول: ما ضربه اللّه سبحانه لنفسه وللأوثان. فاللّه سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده، سرا وجهرا، وليلا ونهارا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة لعابديها عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء للّه، ويعبدونها من دونه، مع هذا التفاوت العظيم، والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر، مثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقا حسنا. فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا. والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء، لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟.
والقول الأول: أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ}.
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه: أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه اللّه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما منبها على إرادته، لا أن الآية اختصت به.
فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرمان فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
فصل:
وأما المثل الثاني: فهو مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم، لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة. واللّه سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل- وهو الحق- يتضمن أنه سبحانه عالم به، معلّم له، راض به، آمر لعباده به، محب لأهله. لا يأمر بسواه، بل ينزه عن ضده، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور.
وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني.
وكلاهما عدل، لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» فقضاؤه: هو أمره الكوني. فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا يأمر إلا بالحق والعدل، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل.
وإن كان في المقضي المقدّر ما هو جور وظلم. فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11: 56].
فقوله: {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} نظير قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «ناصيتي بيدك» وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظير قوله: «عدل في قضاؤك» فالأول ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك. وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة، وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم: يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به.
ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} [89: 14].
وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد: هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه.
وهؤلاء، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس هو كما زعموا. ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل، وبين كونه على صراط مستقيم.
وإن أرادوا: أن حثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مرد العباد والأمور كلها إلى اللّه، لا يفوته شيء منها.
وهؤلاء: إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا: أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم، ومن مقتضاه وموجبه: فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره، وفي ملكه وقبضته.
وهذا- وإن كان حقا- فليس هو معنى الآية. وقد فرق هود عليه السلام بين قوله: {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [6: 39، 100].
وإذا كان اللّه سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على صراط مستقيم في أقوالهم وأفعالهم، فهو وسبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه: هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده، من قول الحق وفعله. وباللّه التوفيق.
وقال في مفتاح دار السعادة: فالمثل الأول للصنم وعابديه. والمثل الثاني: ضربه اللّه تعالى لنفسه، وأنه يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
فكيف تسوّى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده: هو غاية الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم، وأمرهم ونهيهم.
فدعوى المدعي: أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض، ويسبي بعضهم بعضا أكذب دعوى وأبطلها. والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره، والتنبيه عليه. والحمد للّه الغني الحميد. فغناه التام فارق، وحمده وملكه، وعزته وحكمته وعلمه، وإحسانه وعدله، ودينه وشرعه وحكمه وكرمه، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة، والصفح عن المسيئين، وقبوله توبة التائبين، وصبر الصابرين، وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره، ويتطلبون مرضاته، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده سيرة العدل والإحسان والنصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته. ليتميز الخبيث من الطيب، ووليه من عدوه، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب، والحمد لأوليائه والذم لأعدائه.


{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}
فإن قيل: فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [14: 23] وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ} [34: 20، 21].
قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه من وجهين.
أحدهما: أن السلطان الثابت: هو سلطان التمكن منهم، وتلاعبه بهم، وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك، بطاعته وموالاته.
والسلطان الذي نفاه: سلطان الحجة. فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.
الثاني: أن اللّه لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء ألبتة، ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلط عليهم بقوته، فإن كيده ضعيف. وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.
والمقصود: أن من قصده أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه، فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه. كان من عقوبته: أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.


{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}
جعل اللّه سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق. فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه: يدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر: يدعى بالموعظة الحسنة. وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
والمعاند الجاحد: يجادل بالتي هي أحسن.
هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية.
لا ما يزعم أسير منطق اليونان: أن الحكمة قياس البرهان. وهي دعوة الخواص، والموعظة الحسنة: قياس الخطابة، وهي دعوة العوام.
وبالمجادلة بالتي هي أحسن: القياس الجدلي. وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلّم المقدمات.
وهذا باطل. وهو مبني على أصول الفلسفة. وهو مناف لأصول المسلمين. وقواعد الدين من وجوه كثيرة. ليس هذا موضع ذكرها.